كتابات وآراء


الجمعة - 23 يونيو 2023 - الساعة 09:39 م

كُتب بواسطة : سعيد المحثوثي - ارشيف الكاتب


لا زلت أحمل الكثير من الذكريات.. الكثير من جمال الماضي وإن غاب بعضه وارتحل.!
أتذكر الغيم والأعاصير، ولطف أشعة الشمس بالضحى، وحرارتها بالظهيرة وعذوبتها بالأصيل، وجمالها عند الغروب... أتذكر تفاصيل كثيرة، ومحطات شتى.. الليالي الشاتية، والمطر ورائحة التراب عقب نزوله.. الكثير من الخلان والأحباب والأصدقاء، منهم من مضى، ومنهم من لا يزال بحفظ الله ورعايته.
لقد مررت بأجمل لحظات ماضينا الوديع البهي الأنيق، ولا ألام حين أحن إليه، ولا جدوى من رجوع من قد ذهب وانقضى، وبين كل ما كتبت يبرز لي زمان طفولتي، ويذكرني بما يدفعني للغوص أكثر والسير مع الذكريات، ولا أرى في ذلك منفعة غير أن المرء يحب دائمًا الجانب الجميل، وإن كان قد عاشه وصار ماضيًا.!

أتذكر ذاك المساء الشاتي، والأرض تمتد للرائي؛ ليرى السهول والحقول وحولها الجبال والأودية، وفوق كل ذلك الغمام وقد تجمع وتشابك وأظل ما تحته ومن ينتظر نزول ماءه.. وبدون مقدمات كثيرة، يبدأ المطر بالهطول والنزول بغزارة.. والأرض تنتظره، كالذي ينتظر من غاب عنه طويلًا وضربه الحنين والاشتياق إليه ولم يعد يقوى صبرًا على انتظاره...
والمطر حين ينزل لا يلبث إن يشتد.. والمطر أنواع كما أخبرنا آباؤنا، فمنه الذي يأتي مصحوبًا بالرياح العنيفة، ويسمى بالشعوف -بالدارجة الأبينية-.. تلهو به الرياح ولا تدعه يعطي الأرض ما انتظرته منه، ومنه من يأتي بصوت الماء، إذ لا رعد فيه ولا رياح؛ فيملأ مائدة الأرض حتى تفيض، وهو الهميم، وأظن هناك نوع آخر لم أعد أتذكر بماذا يسمى، وهو الذي يأتي مليئًا بالرعود، فهو مخيف وكريم في آن واحد.!
بعد توقف نزول المطر، يتجمع أهالي قريتنا فوق تلة صغيرة -تسمى المحجى- تقع بجانب منزلنا، والسعادة تغمر محيا كل منهم، إذ ارتوت الأرض بعد أن كانت عطشى، وأنا وأترابي نكاد نطير فرحًا، إذ لابد من زيارة صديقنا الجبل الرابض على مقربة منا.!
بعد المطر تتفتح الأزهار، وتكثر الثمار البرية التي يحملها الجبل فوق كتفيه، والمسافة إليها صعبة ووعرة؛ لكن لا بد منها..
هناك أصناف شتى من الثمار الخفيفة التي تزهو جمالًا، وتعلو لذة عقب نزول أي مطر.. الكوبيش والإرناق والكمأة التي تأتي مع المطر ونسميها (فاتيخ)، والعثور عليها فيه من الصعوبة الكثير، ولابد من خبير يعرف كيفية استخراجها من التراب.!

أما حين يلقي الليل بظلاله، ويخيم السكون الجميل على الأرجاء بأكملها، لا ترى إلا المصابيح ذوات الزيت، والنسائم تهب، والحقول لا زالت ملأى بما فيها من مياه أمطار، ولا تسمع وقتئذ إلا نقيق الضفادع، وأصوات الجداجد، ولا تجد في تلك المنطقة إلا الجمال والبهاء والنقاء، ولن تجد في ماضينا غير الحسن والجمال.. الجمال كله.!