آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-07:38م

يا (جميل) .. لا تغيب ..!

الثلاثاء - 25 يونيو 2019 - الساعة 03:08 م

محمد علي العولقي
بقلم: محمد علي العولقي
- ارشيف الكاتب

لازلت معه في محنته المرضية لحظة بلحظة ، أشاهده وهو يلعق الآمه في صمت وشموخ ، وأراه وهو يتعذب ليلا شاكيا لجبل شمسان اضطراب خواطره .. * لازال كما هو، شامخا أبيا معتزا بتاريخه الكروي الكبير الذي صنعه في ملاعب الكرة بعرقه وجهده وإخلاصه وعشقه لوطنه الكبير ، يبتسم رغم مرارة الواقع ، يضحك رغم تلك الصاعقة التي تسكن ركبتيه المتورمتين ، تحدثه عن الألم فيحدثك عن الأمل ، هو هكذا قلبه مخزن أسراره ، لا يبوح بمعاناته حتى لظله .. * إذا كان هناك من (جنايني) أطعمنا من شجرة برتقالية مباركة فهو (جميل سيف) ، اللاعب الذي أخذ من الغزال رشاقته، ومن الفهد سرعته، ومن الثعلب نباهته وسرعة بديهته ، الإنسان الخلوق الذي يحوم حول أزهار يومياتنا، فيمتص رحيق معاناتنا ويطرحها عصيرا برتقاليا منعشا .. * من سمائه كان (التمباكو) يتلون مثل برق يداعب سحابة برتقالية ، يدجن الرياح ويحصن حديقته بالشكر لله الواحد القهار ، إذا كان في كتاب الكرة الجنوبية ثمة دائرة للفرح ، فجميل سيف هو دائرتها وبؤرتها وأيقونتها الخالدة .. * لن أحدثكم اليوم عن بطولات النجم (جميل سيف) ، فهي محفوظة في ألواح ذاكرتنا ، ولن أسهب في وصف عزيز القوم مع المنتخبات الوطنية الجنوبية، فهي تملأ السمع والبصر ، كما لن نحلل ونشرح أهدافه الدولية والمحلية فهي تدرس في أكاديمية الحياة كل يوم ، لكنني اليوم سأحدثكم عن معاناة هذا النجم الكبير الذي يمضغ آلامه التي مزقت سكون الليل، فأحالته إلى (قعيد) يتقرفص على فراشه دون وسيلة مساعدة، لا من (شمسان)، ولا من كوارث قيادية محسوبة علينا رياضية .. * كما لو أن مشواره الطويل مع الإصابات الدولية قد حطت أوزارها أخيرا في ركبتي (التمباكو)، فجأة استوطنت ركبتيه صاعقة رهيبة ، انفجرت مخلفة رجلا قعيدا مهددا بالشلل أو البتر لا سمح الله .. * منذ أن عرفت حالته تابعته كظله ، ليس لي إلا مواساته ومطالبته بالصبر على الابتلاء ، كنت أقرا في صفحات وجهه معاناة وخيبة أمل من كل قيادات البلد الرياضية وغير الرياضية ، وكنت استنتج من فلتات لسانه تجربة ألم رهيبة لا حدود لها، عزلته وجعلته يبدو رهين المحبسين .. * تابعت حالته المرضية بشئ من التوجس والخوف ، فنحن في بلد (دلع كرشك) كل مسؤول خرج من بطن أمه يسلب ويسرق ويأكل السحت ويحلي بماء كالمهل يغلي في بطنه ، فكيف له أن يشعر بمعاناة لاعب معاصر مثل (جميل سيف)، في زمن النصب والاحتيال وواسطات الصراصير..؟ * راقبت كيف تنصل الأحباب عن دورهم تجاه زميهلم ..؟ وتابعت كيف تفرق زملاء الأمس عن (جميل) الذي أنهكه العقوق قبل أن يستبد به الوجع العضوي ..؟ ، بعض زملائه ممن فتح الله عليهم تناسوا أن في أعناقهم ديونا كثيرة و كمبيالات متراكمة لهذا الأستاذ والمعلم الذي قادهم نحو منصات النجومية ، تجاهلوا (سيفهم) حامي ديار بني شمسان ، ذلك الفارس الكريم الذي أثخن كاهلهم بجمائله وبطولاته الكثيرة * (جميل سيف) نجم مضيئ حساس، فهو يرفض أن يتنازل عن شموخه للأغراب الذين اطفأوا وهج شمسه البرتقالية في عز الظهر، ويرفض أن يخاطب أميين جهلة هبطوا على رياضتنا بباراشوت الواسطة والمحسوبية ، لكنه بالمقابل يفتح نوافذ قلبه المجهد على المشاعر الصادقة التي تفد إليه من القلة التي أصرت على أن تزامله في أشد الأيام عسرا في حياته .. * يقشعر بدنك وأنت تتابع حالته الصحية المتهالكة ، نظرة على عينيه الكرستاليتين المسهدتين ستتنازعك الكثير من فقرات (هتشكوك) المثيرة للدموع ، كوكب جنوبي آخر يتهاوى صامتا في الظلام، ولا حياة لمن تنادي .. * على مقربة من حديقة البرتقال، ينتحب الناي الشمساني الذي أطرب ذلك الحي لأكثر من ربع قرن، يجثم الغروب على ركبته يتحسسها في ألم ثم ينتحب الناي مجددا : هذه هي القدم التي كانت ترسم في ملاعبنا أجمل اللوحات وأغلاها سعرا ، هذه هي القدم التي كانت مصدر سعادة للكرة الجنوبية في الدخل والخارج ، هذه هي القدم التي كانت تسقي حراس المرمى سما زعافا باتت اليوم ذكرى ينخرها الورم، استحالت بالونة محملة بكل دمامل الوجع .. * يحتفي الشفق بجراح (جميل سيف)، وفي ظل نجوم ترتعش يبكي ليله الدامي غسقا بلون الدم ، كيف يتخلى الوطن عن هذه القدم المهددة بالانقراض ؟ كيف لوطن كان (جميل) سيفه البتار ، وفارسه المغوار أن يهمل قدما كانت تحول الأشياء أمامنا إلى ذهب بمجرد لمسها ..؟ يا طالعين الجبل : هل تذكرون كم مرات نثر (جميل سيف) الأفراح على قمة (شمسان)..؟ هل تذكرون كيف تحول القحط الشمساني إلى جنة برتقالية في أرض الله ..؟ هل تذكرون كيف تحول السيف الشمساني البتار إلى فارس في يمينه عطاياه وفي يساره ضحاياه ، وهو يهدي (المعلا) بيضة الديك في ليلة أطفأ فيها وهج شعلة المصافي بهدفين غيرا مسار البطولة من الشيخ عثمان إلى (المعلا) ..؟ من منكم يا مدمني العقوق يتذكر هدف (جميل سيف) في مرمى الحارس السوري العملاق (شاهر سيف) ، على ملعب العباسيين بدمشق في الدورة العربية عام 1976 ..؟ هل تعلمون أن الرئيس السوري الراحل (حافظ الأسد) وقف في المنصة يصفق لذلك الهدف الخارق ..؟ هل تعلمون أيها الجهلة أن (غوار الطوشي) بحث طويلا عن هذا اللاعب الذي زلزل الارض تحت أقدام السوريين وأذل ناصية أشهر حارس مرمى عرفته الكرة السورية طوال تاريخها ..؟ هل تعلمون أن (جميل سيف) زاحم نجم منتخب المغرب المونديالي (فراس أحمد) النجومية في تلك الدورة ؟ * تلك القدم التي سجلت أروع الأهداف الدولية تعاني الضمور ، باتت ذكرى قد تبتر في وطن يحكمه الأقزام وضاربي دفوف (طاسة الحناء)، فيما الحكمة الشهيرة توارت في واد غير ذي زرع .. بالله عليكم كيف تنسون هدفه الخالد في شباك الحارس السعودي الكبير (أحمد عيد)؟ ، هدف كالومضة لا يمكن أن يتكرر بنفس الانسيابية والسرعة ، هدف جعل مدرب المنتخب السعودي يقول بعد الخسارة عام 1976 : لو كان للمنتخب السعودي لاعب مثل ذلك الغزال الرشيق لبلغنا نهائيات كأس العالم ..؟ أين كنتم أيها الطحالب الفاترة العابثة بتاريخنا الكروي عندما دخل (جميل سيف) تشكيلة منتخب شباب آسيا في الكويت ، عندما صال وجال ، قبل أن يشبهه المعلق (خالد الحربان) بلاعب الكويت الكبير فتحي كميل .. * عندما كان السيف العدني الجميل يبطش بجلاديه داخل الملاعب، كان هؤلاء الدخلاء على رياضتنا مجرد نطفة في علم الغيب ، ولأنهم استخدموا زانة القفز إلى ديوان شيوخ البطيخ ، فقد سيطروا على رياضتنا طولا وعرضا وارتفاعا ، وطبيعي جدا أن يعرفوا لاعب الواسطة ويبجلوه ويكرموه ثم يتجاهلوا الفارس الأسمر (جميل سيف)، لأنه ليس من مواليد برج (الشيخ) .. لك الله يا (جميل)، وعليه العوض في حكومة وزيرها لا يعرف من الألعاب الرياضية سوى لعبة (بيع التيس) ..!