كتابات وآراء


الأربعاء - 05 يوليه 2017 - الساعة 12:28 م

كُتب بواسطة : محمد علي العولقي - ارشيف الكاتب



الكويت في خاطري ..شريان يتدفق بنبض الحياة الخالدة ، لم تقطع وعدا وقد أفتاها أهلها حبا للعروبة ، وشهدوا لها أمام الملأ أنها بيت العرب الكبير الذي نلجأ اليه
كلما ضاقت بنا الأرض بما رحبت ..!
الكويت في داخلي وداخل كل عربي صبابة حب عذري تحمله بلازما دمائنا .. وهي تسبح في أوردتنا رافعة في حجابنا الحاجز بيرق الوعد الموعود لجنة خليجيةحباها الله فيض الغمامة ، ترتسم في تلافيف كل (جنوبي) أرتوى من زمزم مشاريعها الانسانية وشما يأبى أن يفارق الجسد وقد التحم ببقائنا احرارا يردد ساعة
الهجيرة وليل المطيرة :عاشت لنا الكويت وعاش أهلها واللي يحب الكويت يضحي لأجلها ..!
ذلك الشعار الخالد الذي سكبه في أفواهنا شاعر الملاحم البطولية الشهيد الشيخ ( فهد الأحمد الجابر الصباح) الذي يستعرض عضلات شهامة بلده بأوبريت (أنا
كويتي أنا) ..!
من قلعة (ا لجابرية) ينسكب لجين التاريخ قادما في صورة شلال من ثريا جميلة تطالعك بنوادر يرسلها ضوء الليلك، تفتح المجرات نيازكها لتطل على (الكويت) متخمة بنافورة فرح تشرق من عين حمئة ، ضاربة في جذور التاريخ ملحمة (جابرية) ، يعرف اسرارها كل عربي تنفس من مسامات دولة الكويت الشامخة ، التي بقيت
وفية لقوميتها ونكهتها الشرقية ، ومزاجها العربي .. رغم ما أصابها من سهام ونبال ذوي القربى في صيف كبيس احتضر ، وهو يرسم للعالم لوحة الغزو الهيستيري
لجار مجنون كان يتربص بأهل الدار ويلعب بالنار التي أحرقت أصابعه .. !
لم تفارقنا نحن الجنوبيين تلك الذكريات الداكنة الأليمة ، وقد خرجنا يومها من عدن في تظاهرة غاضبة ضد مغول بلاد النهرين ، بكينا يومها دما وأبيضت عينا
والدي رحمه الله وهو كظيم، كان ينتحب على فراشه وهو يشاهد عبر الشاشة الاجتياح المجنون ، ولم تفارقه الصدمة وهو يلعن ذلك الأعرج (المكيافيللي) الذي
ينهب ويدمر ، وقد حوله الغل الى وحش مخيف بأسنان نتنة وأظافر مقرفة حد الغثيان، كنا صغارا لكن ذبذبات ذلك النحيب صك مسامعنا وسرعان ما تركنا لقنوات الصرف أن تفيض بدموع حارقة غيرت معالم وجوهنا البريئة ، كنا ندرس في ثانوية بنتها الكويت في (الجنوب) ، كل شيء فيها يفوح برائحة البحر وقلعة الفنار ، وفي ساعات العسر رسمنا نحن الطلاب لوحة للشهيد (فهد الاحمد) وخطينا على قبضته الفولاذية عبارة : كلنا الكويت !
شعرنا أن القمر يبكي في عليائه ، وراحت النجوم تأفل في سماء ملبدة بالغيوم والغيوب والعيوب ، في ذلك الغروب رسم الشفق وجنة محترقة ، لقد اقسم يومها صديقي أنه رأى السماء تبكي قهرا ، ورأى الشفق بلون الدم ، عرفت يومها أني فقدت شيئا غاليا لا يعوض ، اهتزت أطرافي وقد كان البكاء في البيوت يصم الاذان ويصل مداه الى (الجوزاء) ، يومها أختفى طائري من عنقي لم استطع التعرف عليه ، ومثل أي عاشق أدرت مؤشر مذياع والدي العتيق بحثا عن اذاعة الكويت ، وكانت الصدمة والطامة الكبرى ، فقد خرق الغزاة الحفاة العراة سفينتها ، وعرفت أن خلفهم ذلك الوحش الشرير الذي يغتصب الأرض والعرض، لم أعد احتمل اطلقت العنان لدموعي المحتقنة خلف قرنيتين بلون الليل البهيم الجاثم على صدر الكويت ، وانسابت دموعي البريئة حتى خيل لي أن منسوبها بلغ الزبى ، أرتدى الليل الطيلسان الأسود المخيف ، وفارقنا نهارنا ، تساءل ليل الصب : عن ساعة الخلاص ،عن موعد عودة الدورة الدموية الكويتية الى أجسادنا الطرية ، لم أنم في أتون العاصفة وبلاد العرب تئن من مطارق غزاة الحرية ، وعندما رأيت وجهي في مرآة العرب شعرت أن (الخنساء) ترثي لحالي ، وهي تربت على رأسي منشدة بواقع الحال :
قذى بعينيك أم بالعين عوار ..!
الشمس في سمائي كئيبة ، والأرض العطشى تنظر الى الأفق البعيد بحثا عن غيث الاندلس ، والسماء الساخطة الغاضبة لا تنذر بذلك، استرقت النظر نحو شجرتي الباسقة ، لعل طائري أضناه التحليق فقرر العودة من أرض سبأ بالنبأ اليقين ، ضناني الشوق لمسروقاتي الرابضة على تلة قرصان ماء وراء النهرين ، كنت ارى الصورة المروعة للغزاة في تلفاز عدن واصرخ من أعمق أعماقي : هذا هو لص الليل الذي سطا على نهاري ، عرفته من شاربه الكث المترهل على شفتين غليظتين ، ومن أنيابه النتنة الموالية للفأر الزنيم والقنفذ الدميم، لم يعد لبحري موجة ولا لساعتي الصغيرة ذات الطراز القديم عقارب ، اختفت أحلامي وتوارت أماني السديمة في الصندوق
الاسود ، لم تعد لي اذاعة ولا لهفة لبرامج (منصور الميل) ، طال مسائي وقد تكورت مجلة العربي ، حجبوا شعاعها الثقافي وقد كانت رحلتنا نحو العالم على بساط
الورق ، ماتت غصون البان ومجلة الرياضي بفارسها (غسان غريب) تدخل سرداب مظلم ، وكهف بلا مخرج، اشتقت لاغنية عبدالكريم عبد القادر وهو يغني للأزرق المبدع من ألحان ابن الجنوب ( عبدالرب ادريس) : بسم الله بدينا والبادي اسم الله .. توكل يا لزرق على الله ، لم تعد لي مباراة تترجمها الاذن الى قصيدة
مشاهدة ، وقد خطفوا مني الكويت في الليلة الظلماء ، وغابت (مها صبري) عن اذاعة الكويت ولم تعد تغني لنا (فيها جول).
ظلت أحلامي طوال فترة الغزو العراقي لكويتنا الغالية كوابيسا لا تفارقني ، أذكر أننا خرجنا زرافات في قريتي عندنا سمعنا أن حبيب الجنوبيين وحامل مشعل
الثقافة والأدب والرياضة الشيخ (فهد الاحمد) قد استشهد أمام القصر الأميري ، وهو يدافع عن وطنه ، وانغرست في قلوبنا نبال الحرقة ، يا لهذا الغازي اللئيم كيف يغتال من كان يقود جبهات القتال في خندق العراقيين وهو يرفع مدفعه في وجه المد الفارسي؟ لقد كافأوا الشيخ ( فهد الاحمد) بذلك الجزاء الذي لقيه (سنمار)..!
كنا أول من نظم بطولة في أغسطس أيام الغزو تحمل اسم الشهيد (فهد الاحمد) ، وكنا أول من أطلق اسم الشهيد على فريقنا الكروي في لودر ، حرصنا أن
تقام مباريات البطولة على ملعب مدرسة الشهيد (راجح سيف) ، المدرسة التي بنتها دولة الكويت هدية للجنوب في زمن وصل الدولة الجنوبية التي كانت ترتبط بحبل سري مع الكويت..!
مازلت اذكر ذلك اليوم ، يوم تحررت الكويت رغم سياسة الأرض المحروقة ، اذكر كيف حضني والدي الله يرحمه وقد تبللت لحيته بدموع الفرح ، نمت في حضن والدي وحلمت بأطفال الكويت يهدونني اللبن ، وعندما استيقظت كان طائري يغرد بترانيم العودة الى عشه والى حضن وطنه ،نهرني والدي وقد أعد مسرح الاحتفال بتحرير الكويت ، قال لي : اليوم عاد الحق الى مجراه الطبيعي ، لا تبك يا بني على غدر الجار ، هذا درس من المولى عز وجل كي تأمن من ثعابين الخيانة، هيا أدر مؤشر الراديو على اذاعة الكويت ومارس عشقك القديم مع برامجها ومبارياتها الرياضية ، وثق أن قادم الكويت أبهى من ماضيها ، وأكثر اشراقا من حاضر يبتسم للكويت لتسترد تاج عافيتها المفقود ..!
وصدق حدس والدي ، وها هي الكويت مظلة يحتمي تحتها كل العرب من تقلبات طقس المنطقة ، وها هي تمد (عدن) بدفء مشاعرها ومساعداتها وتساهم في تطبيع حياة المدينة التي عشقها كل كويتي هام ببحرها ورقعتها الجغرافية، والكويت تحتفي بأعيادها وتكتب حاضرها بعقول وسواعد أبنائها لم تخلف عهدا وهي تتحول الى شريان حياة يتغذى منه كل (جنوبي) ضاقت به الحياة في عدن المسالمة التي ترتبط بالكويت ، بروابط وعرى تاريخية وصلت الى حد تبادل الخواطر والافكار ، لدرجة انهما مثل توأم في المعالم والأجواء والانسجة ، اذا عطست الكويت تصاب عدن بالزكام..!
باقات من الامتنان لشعب شقيق بسط يده البيضاء داعما عدن بكل السبل ، في ظل مسيرة تطبيع الحياة في عدن تمهيدا لعودتها المرتقبة لتؤدي دورها المرتقب
كساندريلا للجزيرة والخليج .